انها مثل تلك الزهرة البرية التي نبتت في منحدر وعر لا تطلها فيه يد انسان.. ! كنت اراقبها في كل يوم وهي تخرج عدتها وتنصب لوحتها قبالة البحر, ثم تتيه في عالمها بتلك الريشة والالوان.. حاولت مرارا ان اتلصص والاقتراب.. لكن نظراتها الشقية البريئة تستوقفني وتمنعني من ان اقتحم ..
رغم حاجز حرصت ان ابقيه لفترة الا انني اعرفها جيدا, او هكذا احسست.. ! ربما جذبتني عزلتها التي كانت كعزلتي.. او ربما هي الريشة التي كانت هوايتي وعشقي القديم.. لست اعرف السر في انجذابي الى ذلك الكيان المغلف.. ! لكني فهمتها وعرفتها وعشقت تفاصيلها في سويعات..
انستني كل شيئ, حتى ادويتي التي طالها الغبار فوق الطاولة.. واصبحت هي شغلي الشاغل وهاجسي الوحيد.. عرفت متى تقوم وترقد.. عرفت انها على موعد مع الشمس, متى تشرق وتغرب.. ! حتى اصبحنا اثنين على نفس الموعد.. كان في عينيها شيئ من الغموض و الحزن الدفين..
جعلتني اقترب منها اكثر واكثر..
هل تعيش لوحدها هنا على البحر ؟
لماذا لا ارى انوارا في بيتها وغرفتها ؟ ولماذا يختفي اثرها بعد الغروب ؟
تساؤلات عدة كانت تحيرني ولا اجد لها تفسير.. ! ولكن هذا العقل اتخذها شاغله وقد اسرته..
وسط انشغالي بأمرها لم الاحظ انها تحس بوجود هذا المنظار المثبت ناحيتها طوال الوقت, حتى باغتتني بأبتسامة عصفت بما في داخلي كله.. ! ماهذا الوجه الثاني الذي ظهر فجئة ؟ انها ابتسامة طفلة تشع نورا وبرائة ممزوجه بشيئ من شقاوة انثى وسحرها.. عادت الى تأملاتها وتركتني احدث نفسي, هل ؟ لما؟ لعل وكيف ولماذا...؟ سرحت فيها فأيقضتني مرة اخرى فوجدتها تقترب مني وتسألني وكأنها تعرفني او تعودت وجودي..
- لماذا اخترت هذه الوحدة ؟
اجبتها وقد وجدتها زميلتي ..
- كان لابد ان اعتزل العالم وقد اعتزلني, انا الانسان الذي تكلم لغة لا يفقهها احد في العالمين.. ربما لأن تاريخ صدور الكلمة هو نفسه تاريخ ولادتها في عقلي.. ! لهذا رحلت, رحلت الى صديقي..
كنت اكتب على رماله اسراري فيلتقطها مني ثم يمحوها ويحجبها عن عيون البشر.. انه يحتظنني كلما اقبلت عليه وكأنها هي المرة الاولى..
اسمع امواجه , تتغلغل في اعماقي وتخرج مابالداخل كله وتطهرني, اشعر حينها اني احد النوارص المحلقة بلا خوف.. !
التفت اليها فوجدتها تعود ادراجها وهي تقول بصوت ثقيل لا يكاد يسمع.. ; ومن قال لك, انوارص ايضا يصيبها الخوف..
انسحبت واقفلت عليها بابها, ذاك الذي تمنيت كسره ومعرفة ما ورائه.. تركت صورتها التي تعكف على رسمها وغابت.. لا اعرف لما شعرت بأنقباظ وهي ترحل عن ناظري واردت من اعماقي ان الحق بها وامنعها من الذهاب.. ! لكن منظر تلك اللوحة التي تنتظر جعلني اقول في نفسي ربما ستعود..
ولمذا اختارت ان تكلمني وتنسحب هكذا فجئة ؟
في ذلك اليوم لم تخرج كعادتها لتودع الشمس وتهمس لها بموعد مع الشروق.. انني بقيت لوحدي واختفى عطرها الذي ألفته.. لا اعرف شيئا غير غصة في الحلق ومرارة جعلتني ارغب البكاء والصراخ .. حتى هذا البحر لم يعد يعني لي شيئا وكأن ماءه لم يعد يطفي نيراني.. ! ثورة حركتني وسارت بي تجاه تلك اللوحة اليتيمة الحزينة.. وجدت في نصفها ربيع ونهر يجري.. وسرب من الطيور في السماء, سماء زرقاء جميلة بها غيمة بيضاء.. رحت اتأمل ذلك المشهد وغفلت به للحظات عن النصف الاخر, ذلك الذي يملأه اللون الرماذي.. ظلال وسواد ودوامات وخطوط لم افهم معناها.. وكأنها عبث يد طفل صغير او غضب تمرغ في ذلك البياض.. في الاسفل مكتوب امضائها ; سارة عبد الحميد. ‘ اليك انت اهديها ولكن اعليك ان تختار في اي النصفين ستعيش ‘
حملتها وقررت ان احطم كل الاصوار وادق بابها الموصد وازيح ثقلا اني.. ولكن ظرباتي المتكرر لم تجد ردا الا من حارس المنظقة الذي اتاني مهرولا..
- يا سيد ماذا تفعل ؟؟
- عذرا اخي , ادق على الساكنة لأعطيها اغراضها..
- الساكنة ؟ من تقصد ؟
- سارة عبد الحميد..
تقدم مني في استغراب وتعجب ..
- الانسة سارة ماتت منذ خمسة اعوام..