صورة مكلومة بالوجع تأبى أن تتزعزع وأن تندمل، متوضعة نصب العين وثابتة في الذاكرة ثبوت تاريخ ميلادي ..
بطلها ذئب وضحيتها بقايا أنثى مُزقت بمخالبه، غبية أعطته كل شيء وتركها تلملم شتات روحها .. تنتحر ببطء وتتراقص على خشبة الوجع على أنغام قهقهات مجموعة من الذئاب التي تُلغي روحها وتنظر لها كجسد رخيص قابل للاستعمال في ليال عابرة ..
كنتُ على بعد همسة من توقيع وثيقة السجن الاختياري، سجن قلبك وحضن عينيك، لكنك لفظتني بقسوة، بقسوة يا أنت !
الوقت : منتصف الليل، أشكي ثقب قلبي لكوب قهوة وأخط دقاته البطيئة بقلم أسود يحمل من لونه الكثير وأتشبع بلونه أكثر، رن هاتفي النقال، في المقابل كان صوت صديقتي هادئا، تشتكي من تعبها في العمل اليوم وأشتكي من اللاشيء الذي احتل مساماتي وسيطر على حياتي منذ أن غادرتَ إلى مدينة الغياب، سألتني في نهاية المكالمة عن الخاطب الجديد، أخبرتُها أنني لن أقبل فحياتي متخمة من ذكرى واحدة ولا تقبل إضافة عابر سرير
" خيرا ما فعلتِ يا صديقة، خيرا لكِ وله .. " ختمت اتصالها بهذه العبارة التي تردد صداها في أذني كثيرا..
رميتُ عيني إلى النافذة المفتوحة وإلى نسمات الهواء المارة خلالها، نهضتُ واقتربتُ منها فلمحتُ خيال عجوز طاعنة في السن تقف قبالتي وترسم على محياها ابتسامة ساحرة جبرتني على الابتسام بدوري بالرغم من هجري لهذا الكائن العجيب منذ مدة طويلة .. أطلتُ النظر وأطالت الوقوف والابتسام، هداني بالي إلى النزول إليها وتبادل أطراف الحديث معها بمناسبة الإضراب المعلن من طرف النعاس ورفضه مداعبة الجفون، ارتديتُ معطفي الأسود فآخر ما ينقصني هو نزلة برد تُضعف مفاصلي بعدما أضعف الوجع أوتار قلبي..
" ظننتُ أنكِ لن تنزلي " قالتها بلهجة محببة اختلط فيها المزح والحنان والطيبة الخالصة المرتسمة على قسمات وجهها
أجبتُها بصوت أجش تفوح منه رائحة البكاء : " زارني السّهاد فنزلتُ "
مسحت على رأسي، تمنيتُ حينها أن أرتمي بين أحضانها وأكب وجيعتي، اشتقتُ لحضن أمي الذي حُرمتُ منه في سنواتي الأولى في هذه الحياة، لكن القدر يرمي بأحلامنا وأمانينا عرض الحائط ..
" ماذا يزعجكِ يا ابنتي؟ لماذا رنة البكاء في صوتِكِ ؟ "
" حلم لم يكتمل وأمنية لُونت بالسواد .. من أنتِ يا خالة ؟ ولماذا تجلسين قبالة منزلي ؟ "
" أنا عابرة طريق كُتب لي أن أمر من هذه يوما ما، اتخذتُ من الشوق مهنتي وجواز سفري، انتميتُ إلى الوهم والأماني التي لا تجدي نفعا مع قرارات القدر آمنتُ بالحب واتختُ الصمت عقيدة والبكاء على أطلال الراحلين عبادة .. رفضتُ فرصة في العيش وعقدتُ صفقة مع اللاحياة، على الأقل لم يمزق القدر هذه الوثيقة ومازالت سارية المفعول إلى الآن "
" لا يبدو عليكِ كل هذا الوجع، تبدين خالية من الهموم ! "
" وهل تظهر على الميت إمارة الحياة ؟ هناك أوجاع تخدر أحاسيسنا يا بنيتي "
نهضت من مكانها بعد أن قبلت جبيني ووعدتني بزيارة أخرى في الحلم ربما إن شاءت الأقدار وودعت اللاحياة قبل أن تُكتب لها زيارتي
صعدتُ إلى غرفتي وأنا أفكر، لا أرغب أن أكلل حياتي بالوجع الأبدي، لن أرفض فرصة في الحياة، وليُعنّي الله على نزع خيط اليأس من حياتي
حملتُ هاتفي وبعثتُ لرسالتين، نفس المضمون لوجهتين مختلفتين: " أنا أقبل .. "
بعد ثواني وصلتني رسالتان من وجهتين مختلفتين بمضمون مختلف، الأولى من نازع ثوب اليأس من على روحي، فرحة متفائلة بغد أفضل، والثانية من صديقة عمري، جملة واحدة :
" أأنتِ متأكدة ؟ "
أجبتُها بجملة واحدة حمّلتُها مصيري وأملي، أقفلتُ بها صندوق الذكرى المفتوح عن آخره وجففتُ بها أرصفة قلبي المبللة بقطرات الوجع : " لا أريد أن أموت حزينة يا صديقة ! "