(ماذا ولماذا وكيف)
الأيامُ تمضي بطيئةً كسولة ،وظلُها الثقيل يجري خلفها ماضياً إلى المجهول ،والذهن غائمٌ بسحبٍ يكتنفها الغموض ،والقلقُ الغثيث يطفو على شواطئ النفوس ،ثم ينتشرُ في كل مكانٍ من عالمنا الخائف المرتجف ،وفي الصدرِ مشاعرٌ مبهمةٌ تتزاحمُ توقاً للانطلاق،والإلهامُ غائبٌ لا يسعفها بومضةٍ تنيرُ لها الطريق،وفي الخاطرِ فيضٌ من مفردات اللغة الساعية إلى رتل التراكيب ،والرغبة الجامحةُ تدفعني للتعبيرِ عمّا في داخلي من أفكارٍ تتلاشى أمام ضغوط ِالشؤون اليوميةِ ،فأتراجعُ أمام المفاجآت المتوقعة في كلِ حين ،فما أن تفورُ في داخلي ،حتّى تنطفئ أمام زحمة الهموم ،التي ينحني لها القلمُ ،ويئن منها القرطاسُ والأسئلةُ الملحّة تطاردني .. ماذا أكتب ..ولماذا؟..وكيف؟..وأنا أقفُ حائراً بينها وبين ما يجولُ في نفسي ..وهكذا قررتُ أن أتلمس الطريق ،فأكتبُ منطلقاً من هذه الأسئلة نفسها
1- ماذا أكتب ؟..صحيح ..ما المادة التي سأطرقها ؟..هنالك أكداسُ مكدسةٌ من الموضوعات التي تنتظرُ من يخوضُ فيها،ففي عالمنا المتبدّ ل أمورٌ كثيرة تصلح لأن تكون مادةً ثرّة للكتابة ..لكن الزمنَ الصعب ا لذي نعيشهُ يلجم خيول الأفكارِ فتنكفئ على ذاتها وتقف حائرة ًساهمة ،إنهُ الزمنُ الذي أضحى الإنسان فيهِ أرخص الموجودات ،هكذا ضاعت منظومة القيم الدينية ،وتراجعت سطوة الضابطة الأخلاقيةِ ،وسادت من جديد مقولة (الكذب ملح الرجال )وأصبح هذا الملح يُرشُ على موائد المنابر العامرة بأصناف الأطعمة المفبركة ،كما أضحى القتل ُسمةً من سمات الحرية والديمقراطية ،فيفتكُ بالناسِ دون رحمة،أما انتهاك الأعراض،فقد أصبح ميزةً من ميزات الفحولةِ والرجولة والبطولة ،وما الحديثُ عن السرقة والسلبِ بغريبِ عمّا نحن بصدده ،فقد أضحت بنداً أساسيًا في صكِ الوصايةِ على الجيرة ِوالمحافظة على العهود والمواثيق الاجتماعية ،فوا حسرتاهُ على عهودنا التي ذهبت هباءً مع تلكَ العاصفةِ العاتية التي لاتبقي ولاتذ ر
2-لماذا أكتب ..؟فالناسُ صمّت آذانها عن نداء الحقّ ،وصرفت أنظارها عن مشاهد البؤس،والأنانيةُ سيّدت نفسها على روح الجماعةِِ،التي قضت ،ونفحة الشراكةِ التي تلدُ المحبة ،تحولت إلى تعفُنٍ ينهشُ جسد مسيرتنا الإنسانية ،والبغضاءُ انتشرت بيننا انتشار النار بالهشيم ،فنثرت فيما بيننا بذور الفرقة والأحقاد والموروثات القبليةِ ،والانتهازية وجدت السبيل إلى ضالتها المنشودة في تلك الأجواء ِالموبوءة ،وباتَ الاصطياد ُفي الماءِ العكرِ ،مَعلَمٌ من معالمِ ذلك الزمان الذي يغوصُ حتى آذانهِ في مغطَس الفوضى ..إذاً كيف أكتبُ وما سأكتبهُ سيكون كالنفخِ بالرماد،أو كبعث الألحان ِفي قاعةٍ يقطنها الطر شان ،فسأكون مع ما كتبتُ كظلٍ لايقدم ولا يؤخر.
3-كيفَ أكتب ..وقطار الأسعارِ يسيرُ بدون توقف ،فيذهب بأحلامنا وآمالنا بالعيش الهانئ الهادئ،فالفرّوج ُالذي أضحى يطيرُ بلا أجنحة ،أفقدنا الشهية ،والبيض ُالذي باتَ يفقس همّا ًفي صدورنا ،ويفرخُ غصّةً في حلوقنا ،قد ركبَ حنتور الغلاء الذي تجرهُ خيولُ المحتكرين التي لاتلوي على شيء،وما حد يث المتة والسكر واللحوم والسمنة والزيت ببعيدِ عمّا نرى ونسمع ..كيف أكتب ؟والنومُ يجافي مخادعنا ،والحسبانُ لما يأتي بهِ الغدّ ُيؤرقُ غفلتنا ،وحلم المغامرين الرهيبِ يقضُ مضاجعنا ،كيف أكتبُ وقوافل المُرَحَّلين تمرُ بنا تاركةً في القلبِ غصّةً،والمحطّاتُ تتسابق ُفي عرضِ الصور التي تدمرُ أعصابنا وفوق َهذا وذاكَ يتفقُ إخوانُنا التجار على الغدرِ بنا فيشددون الحصار علينا ليزيدوا في البنوكِ أرقامهم ويحافظوا بالسوقِ على أماكنهم ...عفواً لقد تجاوزتُ الحدود وتجرأتُ برفعِ هذهِ النبرةَ في وجوههم ،أعتذرُ ثانيةً،فأنا لاأحب اقتحام سلطنة أحد ،خصوصاً إذا كان هذا الأحد ُيعيشُ حلمهُ المنشود في جمعِ طلائع الليراتِ في صناديقهِ الميمونة .
أنا الآن أقلَُ همّاً ًمن ذي قبل ،فقد أفرغتُ شحنتي ،وأرحتُ نفسي مما علقَ بها ،ولم يبقَ أمامي سوى الدعاء والرجاء ،فأرجو من سيد الهداية أن يهدينا إلى سواء السبيل ،ويعيد ُإلينا البصرَ والبصيرة،لعلنا نجدّي طريقنا إلى الرحمةِ والرأفةِ بالفقراء ،فهم أهلنا وإخواننا بالإنسانيةِ،فنطبِّقُ القول المأثورَ الذي يقول (ارحموا من في الأرضِ يرحمكم من في السماء)
من يطمحْ لاحترام النا س يجب أن يكون كالسنبلة المعطاءة التي تحني رأسها تواضعاً
منقول