السلام عليكم ورحمة الله
أهلا وسهلا بكم في موضوع جديد:
نادم على حياتي
أحمل حقيبتي وأتوجه نحو العمل اليومي، أمشي في خطوات متسارعة خوفا من غضب رب العمل، ليس خوفا
من شخصه ولكن من احتمال اقتطاعه لجزء من راتبي الأسبوعي كما فعل قبل شهرين،
مديري هذا نجار مشهور وله أكبر ورشة في المدينة، تقع في وسطها حيث الضجيج والحركة، عويل السكان
ونباح المارة في الشارع.. ماذا عني؟ بالطبع لست نجارا، فأنا محاسب في تلك الورشة، أضع نظارات كبيرة وأحمل معي
آلة حاسبة لأتظاهر بالذكاء الذي لم أوصف به مرة في حياتي، فالشكر يعود لذرة الفهم التي أمتلكها في ذهني الغبي،
أرى القاعدة ثم أحفظها فأطبقها، بيني وبين العبقرية مسافات، فبدون مرونة أصابعي التي تتقن استعمال الآلة الحاسبة لما كان لي عمل
في هذه الورشة، ولما حلمت يوما بذلك الراتب الأسبوعي الذي أعيل به زوجتي وطفلتي المولودة حديثا،
تزوجت مبكرا مخافة عدم إيجاد فتاة مناسبة، ضمنت عملا بسيطا وبيتا صغيرا أدفع ثمن إيجاره كل شهر، تركت العائلة
وانتقلت للدراسة في هذه المدينة التي لا أعرف عنها شيءً سوى أنها شديدة الحرارة في الصيف،
درست ثلاث سنوات في كلية الأدب، كنت من الطلبة المتفوقين والنادرين أيضا، ولكن في السنة الرابعة
انقطعت ورسبت بسبب مرض جعلني ألازم البيت لشهرين، ولم أقوى على تكرار تلك السنة.
وبأوراق وشواهد مزورة أقنعت ذلك النجار أنني محاسب خريج كلية الاقتصاد بباريس، كذبت عليه! وكلما أرى آلة الحساب تلك
أرجع بالذاكرة للوراء وأتذكر كم كنت بارعا في الكذب، وكم كنت ساحرا في فن الإقناع، ولكن فضحت أمري ذات يوم،
بعد أن اعترفت للنجار، أخربني أنه لا يهم من اين تخرجت ولا من أين أتيت، ما يهمه سوى تلك الشيكات والديون
التي يجب ان أبحث عن مخرج لها، لكن ضميري منعني من المواصلة وغادرت المدينة في اتجاه مسقط رأسي مجددا، العودة لم تكن سهلة،
لأنه تنتظري مجموعة من الاعترافات فوق الطاولة بيني وبين أبي، وكذلك أمي التي تقحم نفسها في كل شيء.
لم أقدر على ذلك، ولزمت الصمت، درست وثابرت ونجحت في الالتحاق بكلية المحاماة والحقوق،
بعد سنوات من الدراسة وجدت نفسي أدافع عن مجرم خطير في قاعة المحكمة، تركت الجلسة في منتصفها ورحت أبكي
وسط الرواق وأنا أجلس القرفساء، غارق في بحيرة الاختيارات الغير الصائبة وأحاول إيجاد مخرج ككل مرة أجد نفسي
في ورطة حقيقية، ولكن كانت هذه الأخيرة لي..
تركت المحاماة، التي أصبحت مهنة صعبة في هذا الزمان، وفكرت في امتهان مهنة أخرى،
ولم أجد أمامي سوى دكان أبي المسدود من سنوات، فتحته لأصادف غبارا خنقني في الوهلة الأولى،
وعلى إثره استعدت عقلي الغائب بأعجوبة، فرأيت أن مشروع مطعم للوجبات السريعة قد يؤمن لي ما تبقى من حياتي.
مع ذلك لا زلت أرى نفسي أتخبط في بحيرة الندم تلك، بسبب خيارات لم تكن ناجحة البتة.
وشريط الذكريات يمر من أمامي في كل ليلة أسند رأسي للمخذة، نادم على حياتي ونادم على ما فات،
وحتى الآن لم يفت الأوان.