السلام عليكم
تعريف النفاق :
أيها الأخوة الأكارم, النِفاقُ داءٌ عُضالٌ باطن, ومعنى باطن: أنه قد يكون مستشريّاً في نفس المؤمن وهو لا يدري، فمن كانَ مطمئناً من هذا المرض ربما كانَ منافقاً، قد يمتلئُ منه الرجل وهو لا يشعر, فإنه أمرٌ خَفي على الناس, وكثيراً ما يخَفى على من تلبسَّ به, فيزعم أنه مصلح, وهو في الحقيقة مُفسد, أحدنا إذا كان يخاف على سلامة إيمانه، إذا كانَ يخاف على مكانته عِندَ ربه، إذا كانَ يخشى الله واليومَ الآخر، إذا كانَ يخشى أن يُحبطَ الله عمله، إذا كانَ يخشى أن يكونَ له صورة وله حقيقةٌ أخرى لا يرضاها الله عزّ وجل، فليُدقق في هذا الدرس .
أنواع النفاق :
العلماء قالوا: النِفاق نوعان: نوعٌ أكبر ونوعٌ أصغر؛ النوع الأكبر: يوجِبُ الخلودَ في النار في دركها الأسفل, قال تعالى:
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾
[سورة النساء الآية: 145]
المشكلة: المنافق يصلي مع الناس، ويصوم مع الناس، وله زيٌّ إسلامي، ويحضر جماعاتهم، فالنوع الأكبر: يُوجب الخلودَ في النار في دركها الأسفل, لأنَّ المنافقَ هذا يُظهر للمسلمين؛ إيمانه بالله, وإيمانه بالملائكة, وبالكتب, وبالرسل, وباليوم الآخر، وهو في الباطن مُنسلخٌ من ذلك كله، لا يؤمن بأنَّ الله تكلّمَ بكلامٍ أنزله على بشر، يهديهم بإذنه، ويُنذرهم بأسه ، ويُخوّفهم عِقابه، هذا الإنسان المُنافق هَتكَ الله سِترهُ وكشفَ سِرّه، وجلّى لعباده أمره، ليكون الناسُ منه على حذر .
هذه أصناف العالمين :
وذكر الله سبحانه وتعالى -كما تعلمون- في القرآن الكريم, وفي مطلع سورة البقرة أربعَ آياتٍ تتعلق بالمؤمنين، أصناف العالمين أصنافٌ ثلاثة؛ مؤمنٌ وكافرٌ ومنافق, فالمؤمنون خصّهم بأربع آيات:
﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
[سورة البقرة الاية: 1-5]
والكفار خصّهم بآيتين:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
[سورة البقرة الآية: 6-7]
وأما المنافقون: فتحدثَ عنهم في ثلاث عشرة آية لخطورتهم, ولاستشراء النِفاق في صفوف المؤمنين، لذلك المؤمن القضية سهلة, مؤمن, مستقيم، عقيدته صحيحة، مخلص، مُقبل ، مُنيب، مُحب، ورع, والكافر لا يستحي بكفره من كلامه، من تعبيراته، من حركاته، من سكناته، فأنتَ تعرفُ المؤمن وتعرفُ الكافر، ولكن هذا الشخص الثالث الذي يُظهر لكَ من الإيمان ما فيه الكفاية وهو مُنافق، قال: هذا النوع الثالث هو النوع الخطر .
لم خص الله المنافقين في كتابه بثلاث عشرة آية؟ :
الله سبحانه وتعالى خصّه بثلاث عشرة آية لكثرتهم، لكثرة المنافقين، ولِعموم الابتلاء بهم، وشِدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإنَّ بليّة الإسلام بهم، والذي يقوله الناس دائماً: أخشى ما نخشاه على الإسلام لا من أعدائه بل من أدعيائه المنافقين، لأنَّ هؤلاء المنافقين يفجرونه من داخله، إذا هاجمه أعداء الدين، أخذَ المؤمنون الحيطة, ولكنَّ المنافقين في صفوف المؤمنين ، بينهم، في مساجدهم، معهم، في أعمالهم .
قال: فكم من معقلٍ للإسلام قد هدموه؟ وكم من حِصنٍ له قد قلعوا أساسه وخرّبوه؟ وكم من عَلمٍ قد طمسوه؟ وكم من لواءٍ له مرفوعٍ قد وضعوه؟ وكم ضربوا أساسه بالمعاول فهدّموه؟ لذلك ربنا عزّ وجل قال:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 11-12]
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾
[سورة الصف الآية: 8]
أربع آياتٍ للمؤمنين، آيتان للكفار، ثلاث عشرة آية للمنافقين لكثرتهم, ولخطورتهم، ولإفسادهم، ولانحرافهم، ولأنَّ الناسَ قد يَلبَسُ عليهم أمرهم .
من صفات المنافقين :
1-مفارقة الوحي :
أول صِفة من صفات المنافقين, قال: اتفقَ المنافقونَ على مفارقة الوحي، كلام الله عزّ وجل عِندَ المؤمنين له شأنٌ عظيم, بينما كلام الله عزّ وجل عِندَ المنافق, يتحرك في الحياة لا وفقَ كلام الله بل وفقَ هواه، ما أمرَ الله به, ما نهى عنه, ما وضحهُ, ما بينّهُ, ما سَنّهُ, تراه ينطلق من مصالحهِ، من ثقافته أحياناً، من طموحاته غير المشروعة، ولا يعبأ بكلام اللهِ، ولا بحدوده، ولا بأوامره, ولا بنواهيه، ربنا عزّ وجل وصفهم فقال:
﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 53]
عِندهم آراء, وعقائد, ومواقف, وتنظيمات لا تمت للدين بصِلة،
﴿كلُّ حِزبٍ بما لديهم فرحون﴾
هؤلاءِ هم المنافقون.
2- يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً:
وأيضاً: يوحي بعضهم إلى بعضٍ زُخرفَ القولِ غروراً، والذي يجمعهم جميعاً: أنهم اتخذوا هذا القرآن مهجوراً، قوله تعالى:
﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 221]
فإذا طرقَ بابه خُطّابٌ كثيرون, يختار الغني ولا يعبأ بالمؤمن, إذاً: قال الله عزّ وجل:
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾
[سورة البقرة الآية: 276]
لا يُبالي بهذه الآية, يأكل الرِبا ويوكِله، هذا هو النِفاق, لعلكَ تراه يصلي، لعلكَ تراه يصوم، لا قيمة لهذه الصلاة ولا لهذا الصيام .
اتخذوا هذا القرآن مهجوراً؛ ما هجرَ تِلاوته, ولكن هجرَ تطبيق أحكامه، ما جعله في حياته, جعله وراء ظهره, جعله خارج اهتمامه, فالإنسان الذي لا يعبأ بكلام الله، ولا يتخذه دستوراً، ولا ينطلق في حياته من أحكامه، فهذا منافقٌ منافقٌ منافقٌ .
3-صم بكم عمي فهم لا يرجعون :
صِفةٌ أخرى من صفات المنافقين: قالَ الله عزّ وجل:
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 18]
عيناه لا تريه آيات الله عزّ وجل, تريه مباهج الدنيا، عينه تلتقط المباهج، الزخارف، المٌتع، المال، ما فيها من زينة، أما أن تلتقط عينه آيات الله الدالة على عظمته، ليسَ هذا من صفات المنافق:
﴿صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون﴾
إن ألقيتَ عليه الموعظة كانَ كالأصم، إن تكلّمَ تكلّمَ بالدنيا، لسانه يتلعثمَ في ذِكر الله، لا يذكر الله إلا قليلاً، يذكر الدنيا, إذا ألقيت عليه حديثاً عن الله عزّ وجل تململ وتثاءب, وقال: دعكَ من هذا الحديث، أما إذا ألقيت عليه حديث الدنيا, أصغت أذناه, وبرقت عيناه, وتألّقَ, ربنا عز وجل.
هذا قلب المنافق :
قال: صمٌ بكمٌ عميٌ؛ أصمّ عن سماع الحق، أبكم عن أن يذكروا الله عزّ وجل، عمي عن آيات الله الكونية, فهم لا يرجعون إلى الله عزّ وجل, أتلفت قلوبهم الشبهات والشهوات.
يا أخي ما قولك في إيداع المال في مصارف أجنبية؟ هناك من أفتى بهذا، هذا شُغله الشاغل، ما قولك بهذا الكتاب؟ قراءات معاصرة, هذا شغله الشاغل، ما قولك بهذه الفتوى للعالم الفلاني بجواز أكل الرِبا بنسبٍ قليلةٍ؟ أتلفَ قلبه الشبهات والشهوات, وغَلَبت نواياهم السيئة على مقاصدهم الحسنة, فكأنه كما قال الله عزّ وجل:
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 10]
الأمراض التي في قلوبهم انقلبت إلى أعمال، فكيف يزداد المرضُ مرضاً إذا استحكمَ في النفسِ وانقلبَ إلى سلوك؟ .