استيقظ مبكراً على غير عادته , نظر إلى الساعة المعلقة على الحائط بتوتر ثم عاد لهدوئه , لازال الوقت مبكراً, الساعة تشير إلى السابعة صباحاً , تثاءب ببطء , ثم نزل من على مرقده , اتجه إلى الحمّام بخطوات هي أقرب إلى الرقص منها للمشي , وقف أمام المرآة يتفحص وجهه , ممسكاً ذقنه بيده محركاً رأسه يميناً ويساراً , محدثاً نفسه , أنا أنا لم أتغير , عشرون عاماً مضت على فراقها ولم يطرأ علىّ أى تغيير , ستجدني كما تركتني , إلا من بعض الشعر الأبيض الذي تسلل إلى رأسي فى غفلة منى فزادنى جمالاً ووقاراً , بدأ في حلاقة ذقنه وهو يصفر تارة ويغنى تارة ويتلاعب بحاجبيه , ما أسعده اليوم , اليوم سيحصد ثمار صبره , عشرون عاماً مضت تحدى فيها نفسه , لازال يذكر ذلك اليوم وكأنه البارحة , يوم رفضه أبيها , لايمكن أن ينسى نظراته وابتسامة الاستهزاء التي علت وجهه يوم طلبها منه للزواج , لازال يذكر إصبعه وهو يشير إليه بالإنصراف , ولكنها هي التي دفعته دفعاً للإقدام على هذه الخطوة رغم علمه بفشلها , كان حبهما أقوى من أن يحول بينهما سطوة أبيها و ماله , أو فقره وصغر سنه .
وقف أمام خزانة الملابس الخاصة به ينتقى منها ما يليق بهذه المناسبة , ارتدى أجمل ثيابه وأفخمها , وأمام مرآة الخزانة وقف لحظات , يتأمل نفسه في زهو هو أاقرب للغرور , يلتف حول نفسه يتفحصها في مرآته .
كانت السماء ملبدة بالغيوم وقطرات المطر تنساب أمام عينيه بينما هو جالس في تراس غرفة نومه يحتسى فنجان القهوة المعتاد , سرح بخياله يتذكر ذلك اليوم , كانت قطرات المطر تنساب أمام النافذة التي وقفت خلفها تودعه ودموعها تتسابق و قطرات المطر ,لا يمكن أن ينسى تلك النظرات , يملؤها الحزن واليأس ,يملؤها التوسل والرجاء بأن لا يتركها ويرحل , لكنه كان أضعف من أن يفعل شيئاً أمام سطوة أبيها ونفوذه ,وهى كذلك استسلمت , تزوجت من اختاره لها , سافرت معه إلى بلاد الفرنجة , أصبح يفصلني عنها بحور ومحيطات , لكنها لم تتركني لحظه , ظلت بداخلي ,تسكن قلبي لا تبرحه .
انتبه لحظه , نظر لساعة يده , انتفض واقفاً, الساعة تشير إلى الثامنة والنصف , يبدو انه تأخر عن موعده , الطائرة التي تقل محبوبته ستصل في تمام التاسعة , خرج مسرعاً يقفز فوق درج المنزل , لم يحتمل انتظار المصعد , ركب سيارته الفارهه يسابق الريح متجهاً إلى المطار.
كان ممتناً لأبيها فلولا موقفه معه لما وصل إلى ما وصل إليه , أصبح أكثر منها مالا وسطوه , انخرط في عمله وتكوين ثروته , نسى نفسه ولكن لم ينساها , فعل ما فعل ليثبت لها أنه كان جديراً بها رغم علمه أنها لن تكون له ولولا وفاة زوجها ما كان ليراها طيلة حياته , كان يتراقص داخل سيارته على أغنية رسالة من تحت الماء , لطالما سمعها ورددها فكانت تداوى جروحه , تشعره وكأنه يحدثها , عشرون عاماً لم ينقطع عن سماعها يتغنى معها, وكان يعلو صوته عندما تقول, علمني كيف أقص جذور هواك من الأعماق, اقتربت الساعة من التاسعة واقترب هو من الوصول إلى المطار, سرت قشعريرة في بدنه , دقات قلبه تكاد تخفى خلفها صوت المذياع يعلن عن هبوط الطائرة التي تقلها إلى أرض الوطن , إنها دقائق وتسعد عينه برؤيتها ويستريح قلبه بقربها , أخرج خطابها الذي بعثته مع احد أصدقائه والذي كان يعمل في نفس الدولة الفرنجيه , وضعه على أنفه يشتم أريجها , نظر إليه نظرةً أخيره , إنها سترتدي معطفاً أحمر حتى أعرفها , واهمة, إنى سأعرفها بقلبي لا بعيني , وهل هذا الجمال يمكن أن ينسى .
بدأ القادمون في الظهور وهو وسط الزحام يقف على أطراف أصابعه يتفحصهم , ثم تهلل وجهه , لقد رأى معطفاً أحمر يتحرك عن بعد , إنها هي , إنخلع قلبه , اقتربت ذات المعطف الأحمر حتى دنت منه , إنها ليست هي , أدار بصره في القادمون فلم يجد معطفاً أحمر سواها , تمعن النظر وكانت الصدمة , إنها هي , نعم هي نفس الملامح , ولكن ما هذا الجسد المترهل, و تلك الإنحنائه التي على ظهرها , ما تلك الشقوق التي في وجهها , ومن تلك الفتاه التي تستند إليها إنها تفوقها طولاً, أذهله عندما سمعها تناديها ماما , إنها ليست هي , ليست من أحببت , إنها بقايا إمرأة , خفض رأسه كي لا تراه ,إتجه إلى سيارته , قادها بهدؤ بعد أن أغلق هاتفه المحمول , فقد فضل أن يحيا وحيداً خيراً من أن يحيا مع بقايا امرأة , ثم حدث نفسه , الهذا الحد تترك السنين أثرها , ثم نظر إلى المرآة التي أمامه في السيارة يتحسس وجهه بأنامله مبتسماً محدثها قائلاً , كم أنت كاذبة أيتها المرآة , ثم أدار الاغنيه ولكن علا صوته عند "لو أنى اعرف خاتمتي ما كنت بدأت .........